ظاهرة الحزن... باعث الشعر  ونفسية شاعرة، قراءة نقدية في شعر يسرى فخري علي ، ديوانها

ظاهرة الحزن... باعث الشعر ونفسية شاعرة، قراءة نقدية في شعر يسرى فخري علي ، ديوانها

أ.د. محمد عويد محمد الساير

قسم اللغة العربية

كلية التربية الأساسية / حديثة - جامعة الأنبار

 

كان اللقاء الأول بالشاعرة الموصلية المعاصرة في الحياة والنتاج الأدبي يسرى فخري علي في المهرجان الشعري الدولي الكبير الذي تقيمه مؤسسة عمود الفرسان  للشعر  العمودي والمعنون بــ : ( حياةً يا عرب). ولقد تعرفت في جلسات هذه المؤتمر الثقافي الأدبي المهم على هذه الشاعر رقيقة المشاعر طيبة الخصال في الشخصية ومن ثمّ في نصّها الشعري الذي تتخلله الطبيعة وحب الإنسان والمكان مع مسحة حزن عارمة أتت على كثيرٍ من مشاعرها وأناتها . وهي شاعرة الحدباء والموصل في الحضارة والتاريخ والأدب وحب الشعر العربي والنظم فيه. وتمازج هذا الحب في مدينتي الحديثة مدينة الحبّ والنواعير والشعر ، عروس الفرات ، مدينة الشعراء أيضاً. كانت سيدة تتمتع بوقارٍ كبيرٍ ، وخلقٍ عالٍ ، تعشق الكلمات ، وتتنفس اللغة وتركع تحت وهج الصورة وضيائها المتألق المتميّز . أهدت لي الشاعرة يسرى مجموعة من دواوينها الشعرية التي صدرت في سنوات عدة من حياتها الأدبية ، ومنها :

·     ديوانها الشعري ( النايات).

·     ديوانها الشعري ( بين الجداول ...قلبي).

·     ديوانها الشعري ( رذاذ من قصائد الماء).

·     ديوانها الشعري (الشتاء معطفي).

وحتماً إن الحديث عن كل ديوان شعري من هاته الدواوين ولشاعرة عراقية معاصرة ، يطول ويطول كثيراً ، ولذا آثرتُ أن يكون حديثي – مقالي – عن ديوانها الشعري (النايات) ، إذ رأيت فيه سمات الحزن والبكاء بشكل كبير ومؤثر في المشاعر والنظم ، وكتبتُ عن هذه الظاهرة عند شعراء العربية – قديماً وحديثاً – تاركاً الدواوين الشعرية الأخرى لهذه الشاعرة لطلبتي في المرحلة الجامعية تقريراً وبحثاً ، أعرّفهم على نتاج المبدعين والمبدعات في أدبنا العربي العراقي المعاصر ، مقترحاً لهم بعض عناوين  الدرس والطلب في شعر هذه الشاعرة الكبيرة ، من مثل :

-        مظاهر الطبيعة في شعر يسرى فخري علي .

-         الإحساس بالآخر   في شعر يسرى فخري علي .

-        تجليات الأنا  في شعر يسرى فخري علي .

... وإلى غير هذه العناوين .

تعدُّ ظاهرة الحزن ظاهرة نفسية عند الإنسان ، المبدع وغيره. وحتماً إنَّ هذه الظاهرة تزداد مشاعر وتأثراً حينما تكون مع المرأة ، إذ إنها الأكثر تأثراً بعوارض القدر ، وعاديات الزمن ، فهي مكمن الرقة ، وسحر العاطفة الشجيّة الباكية في أبسط المواقف واسهلها.

والحزن باعث نفسي عند المبدع، ولاسيما المبدع في النص الشعري، إذ إنَّ النص الشعري بوحٌ عن الأحاسيس والمشاعر التي تعتلي المبدع هذا في زمن ما وفي مكان ما وفي حدث ما . ومن هنا تكون القصيدة أو يكون النص الشعري وثيقة نفسية لمشاعر الذات المبدعة ، فيما تدون  وتكتب وتنظم من نصوص شعرية في أغراض شعرية معينة ، وبجوانب وبنى فنية معينة ... كذلك.

الشاعرة يسرى فخري علي تمحورت شخصياً وإبداعياً شعرياً وظاهرة الحزن في الكثير من نصوصها الشعرية في ديوانها الشعري ((النايات))، في عتبات النص الشعري الرئيسة والفرعية ، وداخل عتبات هذا النص في اللغة والصورة والدلالة والتركيب .

وديوان الشاعرة الموصلية ( النايات) الصدار عن الرابطة العربية للآداب والثقافة، فرع الموصل (3) ، للعام 2020، احتجن العناوين الفرعية الكثيرة جاءت متمثلة بظاهرة الحزن وتجليات الألم . ولاشكّ في إن مثل هذه العناوين تمثل قمة القلق النفسي الذاتي عند الشاعرة ، فالعنوان الفرعي ودقة اختياره هو ما تسعى إليه المبدعة في احتواء أفكارها ومضمون غرضها الشعري ، واتجاهات ذلك الغرض كما جاءت في البناء الداخلي للنص الشعري ولوحاته – إن كانت فيه لوحات – .

ومن  مثل هاته العناوين التي جاءت عند الشاعرة يسرى في ديوانها الشعري ( النايات) ، ومثّلت ظاهرة الحزن ومأساة الألم كما ذكرتُ لك عزيزي القارئ هي :

·   النايات . وهو العنوان الرئيس الذي يحمل غلاف الديوان وعنوان قصائده الشعرية. والنص الذي يحتجنه هذا العنوان الرئيس نصٌّ شعري يتغنى بشجنٍ وبكاءٍ . سريع لإيقاع مضطرب للكلمات الحزينة الباكية في لوحات للزمن والمكان، كما سأعود إليه  مليّاً في التحليل النقدي في مقالي المتواضع هذا عن الشاعرة يسرى فخري علي – إن شاء الله – .

·   يا أيها الحزن . مناجاة حقيقية لوجع الذات الذي يتكرر في أكثر من نص شعري واحد عند الشاعرة يسرى فخري علي في ديوانها الشعري ( النايات). وأجزم أن الذات هنا كانت قوية لم تُهزم أمام هذه المناجاة حتى سرّاً!

·   وجع الحنين. الوجع هنا وجع الذكريات ، وجع الشوق إلى أيام ما قبل الحزن وما قبل الألم. وجع سرمدي مبكٍ يثير العاطفة الباكية الحزينة دائماً ؛ لأنه يتعاضد وبكاء الزمن ونوح المكان وساكنيه.

·   لهفة أم ثكلى . سؤال يومي يكاد يقرب من تداعيات العاطفة الحنون عند الأم في كل زمن ، العاطفة الحزينة المتألمة طبعاً. هي لن تجيب على السؤال ، ولن تفرّج عن المشاعر بين الذات والآخر – المتلقي – . وإنما بوحٌ وبوحٌ وبوحٌ لتلك اللهفة أو تلك الثكلى ... ؟؟؟؟ وما بينهما.

·   رثاء وطن .  ربتما يكون هذا النص الشعري الأكثر تأثيراً عاطفياً ونفيساً، والأكثر تأملاً وقراءة ، إذ إنه يخصُّ المكان الأم والمكان الأب ، والروح والخبز --  الوطن (العراق).

وكفى بهذا العنوان دلالة على قمة الحزن لما حدث فيه ، ولما يزل يحدث فيه – وللأسف الشديد – من النكبات والمآسي والأحداث الجسام التي تأتي على أغلب نواحي الخير والطيب في هذا البلد العزيز الواحد.

·   في رثاء الحسين . كانت الشاعرة يسرى فخري علي ذكية وفطنة في اختيار هذا العنوان لنصّها الشعري، فلقد مزجت بين مشاعر الحزن الذاتية ومشاعر الحزن الإنسانية الدينية التي تنتاب الناس أجمع في التذكر بهذه الحادثة الأليمة ، وهذه الذكرى الموجعة التي تمرّ على الأرض ومَن فيها كل عام.

هذي كانت وقفات تأملية عابرة في ظاهرة الحزن وتجليات الأنا فيها عند الشاعرة يسرى فخري علي في ديوانها الشعري (النايات) فيما يخصًّ عتبة العنوان الرئيسة والفرعية. ومدى تلائم هاتين العتبتين مع جسد النص الشعري ، ولاسيما وهذه الظاهرة التي نبحث عن تداعياتها وجوانب التأثير فيها على الأنا المبدعة ، وكمية الحزن المتتابعة في نفسية الشاعرة ومن ثمّ في مشاعرها ، وإلى نصّها الشعري في ديوانها هذا .

والآن – عزيزي القارئ – معاً إلى جسد النص الشعري عند الشاعرة يسرى ، لنبين لك مدى تأثير ظاهرة الحزن عليها ، وشدّة هذا الباعث النفسي الذي ترك الأنا بهذا الألم كلّه.

في افتتاحية النص الشعري (النايات) ، تبدو الشاعرة في وداع نفسيٍ مبطنٍ لأحزانها الطويلة التي انتابت حياتها، وانتابت هذه الأحزان وطنها ومكانها وزمنها. تقول في هذه الافتتاحية من نصّها الشعري النايات :

سلاماً يا ذرى الشجنِ               ويا قُدسية المدنِ

سلاماً كربلاء الدمعِ                    أذرفه ويذرفني              

(النايات : 3).

الافتتاحية هذه سلامٌ لذلك الشجن ، ولذراه الكبيرة التي امتدت عب الزمن من مظلمة كربلاء إلى مظلمة بغداد إلى مظلمة الموصل ، كما تقول شاعرتنا يسرى فخري علي من نصّها الشعري هذا . وتنتسب إلى هذا الوجع السرمدي المبكي ، وهي النايات الباكيات المظلمات في المكان والزمن والحدث وبكاء الذات . تقول الشاعرة يسرى في لوحة شعرية أخرى من لوحات نصّها الشعري هذا :

أنا ابنة موصلٍ ،مدّت                              سنين الحلمِ للوسنِ

أُمدُّ طيورَ بسمتها                                     وشوقي والهوى سفني

أنا النايات ، باكيةٌ                                 على الأطلالِ والمحنِ 

(النايات: 2).

هذي هي الأنا ------ بالمفرد ، وهي النايات------ بالجمع ، في البكاء على تلكم الأطلال ، وما اعتورتها من المحن الأليمة الظالمة في بلدنا العراق عبر عصور الزمان والحياة.

وأمّا في نصّها الشعري المعنون بــــ : (يا أيها الحزن) ، فبدت الشاعرة يسرى فخري علي قوية صابرة أيضاً وهي تنادي الحزن ، وتسمه بداعٍ للحنين وبداعٍ للشوق، وبداعٍ للصبر، وبداعٍ للتسلية، وبداعٍ للأمل وحبّ الحياة مهما كانت أحزانها ، ومهما كانت مأساتها . وفي آخر النصّ الشعري هذا في خاتمته تعود الذات الشاعرة إلى مناداة هذا الحزن ، إلى أين أنت آخذ بنا ، إلى أين تطول أيامك وساعات؟! إلى أين...؟! وأنا الصابرة المحتسبة ، وكفى بربي ذلك ... واللهِ. تقول في خاتمة النصّ :

يا أيها الحزنُ المراهنُ في دمي                       دعني فعيني تجهلُ التدبيرا

تعبي معي فمن الذي يسعى إذن                ما زلتُ فيه أُعاند التدميرا

وهي التي ما أغمضت محررةً                          وكفى بربي هادياً ونصيرا

(النايات: 13).

 ومن البداهة في البنى الفنية والإيقاعية لنص الشاعر يسرى فخري علي هذا ، أنها مالت إلى ألف الأطلاق لتدلّ على القوة في الصوت والقوة في المشاعر الجيّاشة مع النفس الصابرة المحتسبة القوية أمام هذا الضيف المقيم (الحزن)؟؟؟!!! وألزمت الشاعرة نفسها ونصّها الشعري بما لا يلزم من القوافي في نوعٍ بوحيٍ نفسيٍ أخر للمشاعر المتراكمة عند الأنا .

وأما نصّها الشعري الآخر ، والذي تضعه له الشاعرة يسرى فخري علي  عنواناً يدل على قمة الحزن وتجلياته في ذاتها الباكية الحزينة ، وذلكم العنوان هو : ( وجع الحنين). فلا أدل من المنهج البنيوي في تحليل العتبة الفرعية الأولى للنص ومن ثم تفسيره للقارئ الكريم كما أردته الشاعرة الموصلية.

وعن المنهج المذكور في التحليل والتطبيق لهذا العنوان ، وجع الحنين ، قلتُ :

وجع : --- وجع الشوق إلى الماضي.

          --- وجع اغتراب الحاضر.  

         --- وجع الشوق إلى مستقبل متفائل.                              

الحنين : --- الذكريات .

              --- الزمن الماضي .

             --- الزمن المعيش.

 الوجع هنا بدلالة الحنين وحزن كلاهما، الحنين يأتي بعد غربة أية غربة عاشت الشاعرة فيها . من المؤكد أنها الغربة النفسية المترتبة على مشاعر كثيرة هي :

-        فقد المكان ---- الوطن  ( المكان الأم ، المكان المعيش).

-        فقد المدينة --- الموصل (الحضارة ، والتاريخ ، والتراث، والدين).

-        الغربة من المكان الجديد  --- فقد الفقد ( الأمان ، والأهل والمجتمع).

-        الغربة من أحداث البلد --- الفقد للجميع (العلم ، والمال، والخلان).

-        اليأس بعد الفقد  --- بعد  الغربة (الغربة الاجتماعية ، واقعٌ مؤلمٌ للعيش الجديد).

وبعد هاته المشاعر كلها ، بدت لنا الذات قوية شامخة لا تتألم ولا تنحني أمام هذه العاديات والنائبات ، وأمام هذه المصائب مهما كانت وأنى كانت . في مفتتح النصّ الشعري تقول الشاعرة يسرى في نصّها الشعري (وجع الحنين):

ويطيبُ من بلدٍ يضجُّ ويشتكي                          وعلى أزاهير المودة أنهرُ

وإليهِ لا أدري يعاتبني الورى                    ويشدني فيه العتابُ فأمطرُ

(النايات : 22).

وعن تلكم الأنا الشامخة القوية الصابرة ، تقول الشاعرة يسرى فخري علي في خاتمة نصّها الشعري هذا :

فأنا المنارُ بكلِّ شوقٍ مسفرُ                                   عِبرٌ لها أهلُ الأولى تتصورُ

تتواثقُ الزفراتُ في عمقِ الذرى                          وإليه يسبقني النواح ويمطرُ

وأجرُّ أشلائي بموقد دمعتي                 وغدا اليراعُ لفرطِ حزني يكسرُ

(النايات: 23).

الشاعرة تحسن تداخل لوحات نصّها الشعري في ديوانها الشعري ( النايات)، فهي شديدة التركيز على وحدة الموضوع والغرض الشعري إذ لا يخرجان عمّا قدمنا فيه القول في مشاعر الحزن والألم السمتين الظاهرتين الأكثر تشكيلاً وبوحاً لمشاعر الشاعرة يسرى في ديوانها الشعري هذا ، على الرغم من قلّة الأبيات الشعرية في كل نصّ شغري منه .

وأجدُ باقي النصوص الشاعرة يسرى لا تخرج عما أسلفتُ القول في الظاهرة والبواعث ، وإذ ختمتُ حديثي ومقالي عن الشاعرة سيكون مسك ختامي عن النص الشعري المعنون في ديوانها الشعري (النايات)، عنوان نصّها (في رثاء الحسين)، فالنصّ الشعري هذا كتلةٌ لفظية وتركيبية من الحزن والألم في المشاعر  الطاغية لمقتل الامام الحسين ومن معه ، وبهذا الشكل المفزع الموجع في التاريخ الإسلامي والإنساني.

العاطفة الذاتية تنتقل بالشاعرة يسرى فخري علي من أفق العاطفة الذاتية إلى أفق العاطفة الإنسانية ، وهذا الأمر الذي زاد في مشاعر الذات حزناً وألماً وبكاءً. في مطلع النص الشعري تذكر الشاعرة ذلك النبض الجزيل الكثير في دقة الحزن وبواعثه النفسية في القلوب ، وذلك الدم الذي سال وما يزال يسيل عبر العصور بذلك الهمِّ وبتلك الفاجعة إلى قيام الساعة . تقول شاعرتنا في مطلع نصّها الشعري:

همٌّ على نبض القلوبِ جزيلُ                ودمٌ على مرِّ الزمانِ يسيلُ (النايات: 35).

عن جدّها وجدي الامام الحسين ، تقول الشاعرة يسرى فخري علي بكل فخر لذلك القتيل ظلماً ، ولذلك الدم النازف على سفوح الظالمين الطغاة الذين يتجددون في كل مكان وفي كل زمن ، أصحاب الأزمات سرّاق الوطن ، الباغين في الأرض والبلاد والعباد مهما كانوا ومن أينما كانوا :

يا سيد  الجرحِ النبيلِ على المدى                 علمُ جراحك للهُدى وسبيلُ

بقبابكِ الطهر التي ما أمّها                         ذو حاجةٍ إلا مضى موصولُ

فرحَ الطغاةُ إذا قضيت وظنّهمْ              فيك الرسالة تنتهي وتزولُ  (النايات: 36).

إلى نهاية النصّ الشعري في التمجيد لهذه القضية الإنسانية التي أصبحت رمزاً للثورة على الظلم ، والاقتصاص من الظالمين في كل أمة .

الكلمات الافتتاحية :الشعرُ النسوي في العراق "قراءة في تحليل الخطاب الشعري"، الشعرُ النسوي في العراق "قراءة في تحليل الخطاب الشعري" ، الشاعرة يسرى فخري الحسيني.